عمان - ربى الرياحي
بقلب يغلفه الأسى والوجع، تستذكر أسماء ذلك اليوم الذي حرمت فيه من حضور زفاف شقيقتها الكبرى. تتأجج في داخلها كل المشاعر المؤلمة التي اختبرتها قبل سنتين تقريبا. تقول بحرقة في ذلك اليوم.
وتضيف بعد سلسلة من الحجج الواهية والأعذار غير الإنسانية القاسية التي مزقت روحها بدون أدنى إحساس بالذنب، قررت والدتها أن تواجهها بالحقيقة المرة التي كانت بمثابة السهم الذي أصابها بجروح من الصعب دملها. أخبرتها أن حضورها للحفل سيسبب لهم الإحراج والإرباك وأيضاً سيقيدهم كونها تحتاج لرعاية خاصة تتعلق حتما بالتنقل من مكان لآخر، بالإضافة إلى أن وجودها وحده سبب كاف لتشويه صورتهم اجتماعيا وسيضعهم بالطبع في موقف مساءلة واستعطاف قادر على التقليل من شأنهم!
وتتابع “عندها فقط أدركت أن أسرتي بالرغم من معرفتها لإمكاناتي وما أتمتع به من تميز إلا أنها حتى الآن لم تتحرر من شعور الخجل الذي يصر على ملازمتها لم تنجح في أن تكون الداعم الأول لي بل على العكس اختارت أن تستقصيني عن الحياة الاجتماعية التي ارغب أن اعيشها كغيري بشكل طبيعي بدون أن أجابه بالرفض”. وتضيف كل ذلك ضاعف من حزني وأيضاً من وحدتي ربما لأنني بدأت أشعر بأن لا أحد يهتم لأمري”.
أما العشرينية هالة والتي أيضاً لها قصة مشابهة لقصة أسماء فتقول، “حرمت من المشاركة في المناسبات الاجتماعية منذ أن كنت صغيرة وذلك بسبب فقداني لحاسة البصر، وما ازال حتى الآن ارفض رفضا قاطعا مشاركتي في أي فرح ادعى إليه أو حتى جمعة عائلية يخطط لها الأقارب”.
وتضيف ان تفوقها في الدراسة. وقدرتها على إدارة النقاش بشكل عقلاني وواعٍ. وفهمها العميق لكل ما يجري حولها كل ذلك لم يمنع أسرتها من أن تقيد حريتها وتتجاهل رغبتها الملحة في أن تعامل كبقية أخوتها بدون النظر إلى إعاقتها. وأن يسمح لها بالتعرف على محيطها الخارجي وكسر حاجز الخجل الذي يلازم أسرتها ويسيطر بقوة على قرارها بتهميشها وتحطيمها نفسيا.
مشكلة الخجل والتي تعاني منها بعض الأسر بسبب وجود ابن من ذوي الإعاقة تحتاج إلى وقفة جادة لتسليط الضوء على حقيقة مرة يحاول الكثيرون إخفاءها والتستر عليها وعدم الاعتراف بها أساسا حتى لا يصدموا بالواقع وبقصص كثيرة مؤلمة تلخص بالدرجة الأولى نظرتهم الدونية تجاه الإعاقة ومدى جاهزيتهم كمجتمع لتقبلهم إنسانيا ونفسيا وماديا.
الاستشاري التربوي د. أحمد سريوي يقول للأسف الشديد طبيعة المجتمع العربي منذ عقود وعقود تتعامل مع الأشخاص من ذوي الإعاقة على أنهم أقل شأنا من بقية أفراد المجتمع وأنهم عار وجب تخبئته عن المجتمع. ويضيف هناك أسر كثيرة قامت بتخبئة وحبس أطفالها من ذوي الإعاقة كي لا يعلم الآخرون أن لهذه العائلة ابنا من ذوي الإعاقة، مما يؤثر على نظرة المجتمع لهم وقد لا يتزوجون من بناتهم.
ويقول “لا نستطيع أن ننكر الأثر السلبي الكبير جدا على ذوي الإعاقة في هذه الحالة وهم في حالة إقصاء مجتمعي من قبل الأهل والناس، يشعرون بنقص فوق نقصهم وإعاقة فوق إعاقتهم”.
ويرى أن المجتمع يساهم بعمومه بدعم هؤلاء الأهل للاستمرار بهذا الأسلوب من باب الخجل المجتمعي الموجه تجاه هذه الفئة، بيد أن هناك فئة لا يستهان بها في المجتمع حاربت هذه الظاهرة غير الإنسانية، وكانت تخرج أطفالها ذوي الإعاقة معها في كل مكان، ويولون أبناءهم من ذوي الإعاقة اهتماما أكثر من الآخرين في البيت، وزرعوا ذلك في نفوس من حولهم.
لكن الأمر يختلف كليا عند أم أحمد التي تتألم كثيرا كلما سمعت عن تلك التصرفات المهينة التي تلجأ إليها بعض الأسر غير الواعية تجاه أبنائها من ذوي الإعاقة، وإصرارها الغريب على تغييبهم عن الحياة المشتركة وإخفائهم عن الأعين، حتى لا يؤثر ذلك على مستقبل بناتهم.
وتتساءل: هل تجردنا فعلا من إنسانيتنا وأصبحنا لهذه الدرجة أنانيين لا نبالي أبدا بمشاعر هؤلاء الأشخاص الذين اختارهم القدر ليكونوا نماذج حية في التحدي والإصرار.
وتقول “لدي ابنة من ذوي الإعاقة يسيئني جدا شعور بعض الأسر بالخجل الذي يجعلهم ينكرون أبناءهم فقط لأن لديهم إعاقة”، لافتة الى انها تؤمن بقدرات ابنتها رغم افتقادها للبصر، اساندها واشركها باستمرار في أي نشاط أو جمعة عائلية أو مناسبة اجتماعية من شأنها أن تمنحها الثقة بأنها كغيرها من حقها أن تكون متواجدة تتخذ هي قرارها بنفسها بعيدا عن أية ضغوطات.
وتقول أنها منذ أن كانت صغيرة حرصت على أن تعاملها معاملة طبيعية ليس فيها شفقة أو تهميش بل على العكس كانت معاملتها لها تجمع بين الحزم واللين تماما كباقي إخوتها ليس فيها أي تمييز، وكان له أثر بشكل إيجابي على شخصيتها. فهي اليوم تتمتع بالكثير من الصفات الجيدة التي تؤهلها لتكون شخصية ناجحة. واعية بكل ما يجري حولها. قوية إلى الدرجة التي تمكنها من اجتياز معظم المعوقات الاجتماعية بدون أن تسمح لتلك المشاعر المحبطة بالتسلل إليها.
ويؤكد الخبير الاجتماعي د. حسين الخزاعي أن عدم مشاركة الأبناء ذوي الإعاقة في المناسبات الاجتماعية يسهم في تعزيز النظرة السلبية لديهم، ويسهم في الانعزال والانغلاق وعدم القدرة على إثبات وجودهم واستغلال قدراتهم في تقديم الخدمات للمجتمع.
الى ذلك، يؤدي إلى تعطيل طاقاتهم وتكريس جانب الاتكالية والاعتمادية على الأهل. ويشدد الخزاعي على أن حرمان هؤلاء الأبناء من الاندماج في المجتمع يرسخ الصورة السلبية عن ذوي الإعاقة بالرغم من أن لديهم طاقات وإبداعات وقدرات قد تميزهم عن الآخرين بسبب تفوق بعض ذوي الإعاقة في مجالات علمية وأكاديمية ورياضية ولديهم مواهب يجب استثمارها بشكل فعال. وفي هذا الصدد يؤكد الخزاعي على ضرورة الابتعاد عن الموروثات الاجتماعية السلبية والتقليد الأعمى عند بعض الأسر التي لديها أطفال من ذوي الإعاقة وتحرمهم بعدم إعطاء الفرصة لهم لإثبات قدراتهم. وهذا يسهم في تهميشهم وعدم تميزهم واستقصائهم.
ويرى اختصاصي علم النفس د. موسى مطارنة أن الإعاقة قضية إنسانية أولا وخلقية ثانيا، ولا يعاب الإنسان بما أراده الله له. وليس هناك من هو بعيد عن أن تكون لديه إعاقة بشكل أو بآخر من هنا ﻻبد من وقفة عن ثقافة العيب أو الخجل لموروثات اجتماعية وأفكار تنكر الإيمان بأن الإنسان لا يقاس بتشكيل إلهي بقدر ما يقاس بتفهم حالته واحتياجاته.
ويضيف الإعاقة أنواع ومنها من خلق معاقا عقليا او حركيا أو سمعيا أو كفيفا وهذه إعاقات تكوينية بحاجة منا للمساعدة وتعاون معهم لتحقيق احتياجاتهم، ولا يعاب صاحبها كما هي الإعاقات التي تنتج عن حالة مرضية أو حادث يمكن أن يصاب بهما أي انسان ، قبل ان نخجل من هؤﻻء علينا أن نتوقف عند سؤال ماذا لو أصبنا نحن بما هم فيه؟
من جهته يؤكد الخبير في حقوق ذوي الإعاقة الدكتور مهند العزة ان دمج الأشخاص ذوي الإعاقة مهم جدا، وأكدت عليه اتفاقية حقوق ذوي الإعاقة التي نصت في قوانينها ومبادئها على إلزامية التضمين والدمج، حيث احتل اهتماما كبيرا في الاتفاقية من خلال المادة 3 والمادة 4، فضلا عن المبادئ العامة والإلزامية للاتفاقية.
ويبين العزة أن المادة 31 /2007 من القانون الحالي الذي يتعلق بورود قانون يتعلق بحق الأشخاص ذوي الإعاقة بالدمج، لافتا إلى أن المادة 3 واحد من أهم المرتكزات للاتفاقية، مشددا على أهميته من الناحية العملية والنظرية.
يقول “نسبة الوعي ارتفعت كثيرا عن السابق ولم تعد الأسر تخجل من أشخاص ذوي الإعاقة كالسابق”، لافتا إلى أنه ومنذ صدور القانون المتعلق بذوي الإعاقة والمصادقة عليه أصبحت درجة الوعي أكبر، إلا أن عدم وجود إحصائيات لنسبة الأشخاص ذوي الإعاقة قبل صدور القانون وبعده، تجعلنا غير قادرين على معرفة حجم الوعي في المجتمع.
ويبن العزة أن الخوف من الوصمة الاجتماعية والصورة النمطية التقليدية التي قد تلحق الأسر التي يوجد عندها أشخاص ذوو إعاقة، خصوصا في المجتمعات الفقيرة تدفع العديد من الأسر إلى إخفائهم وعدم دمجهم في المجتمع، سيما وأن هناك العديد من الناس الذين يعتقدون أن الإعاقة أمر وراثي، قد ينتقل من جيل إلى آخر من خلال الزواج والنسب، الأمر الذي يحتم على المعنيين رفع الوعي بشأنه.
ويرى أن الأسرة إذا أدركت وجود مكان تأهيل للأشخاص ذوي الإعاقة وتعزيز شخصيتهم ودمجهم، ستسعى لإرساله إلى هناك، لافتا إلى أن الوعي قد ارتفع والنظرة اختلفت نوعا ما ولكن بشكل تدريجي وبطيء.